مفهوم العبادة

الخميس _14 _مايو _2015AH admin
مفهوم العبادة

الحمد لله المعبود وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وعلى آله وصحبه وجنده، وبعد:
كنا قد وقفنا في مقال سابق على الحكمة التي من أجلها خُلقنا، والغاية التي لسببها وجدنا، وبيّنا بالدليل العقلي والنقلي أن العلة من ذلك هو تحقيق العبودية لرب البرية، ولا بد لكل إنسان حتى يستقيم وجوده في هذه الدنيا ويكون عنصر صالح مثمر فعال؛ من تحقيق مراد الله عز وجل لأنه الخالق الرازق المبدئ المعيد ذو الجلال والإكرام.

ولكي نعبد الله سبحانه وتعالى على بصيرة ودراية وعلم؛ لا بد أن نعرف حقيقة العبادة ومفهومها ومعناها ومدلولها، وحدودها وشروطها وضابطها وأقسامها، ووسائل تحقيقها التي لا تقتصر على بعض الفرائض أو الطاعات والقربات بل هي أوسع من ذلك كما سيأتي.

تعريف العبادة:
العبادة في اللّغة: الخضوع، والتّذلّل للغير لقصد تعظيمه ولا يجوز فعل ذلك إلاّ للّه، وتستعمل بمعنى الطّاعة.
وفي الاصطلاح: ذكروا لها عدّة تعريفات متقاربة: منها:
أ- هي أعلى مراتب الخضوع للّه، والتّذلّل له.
ب- هي المكلّف على خلاف هوى نفسه تعظيمًا لربّه.
ج- هي فعل لا يراد به إلاّ تعظيم اللّه بأمره.

د- هي اسم لما يحبّه اللّه ويرضاه من الأقوال، والأفعال، والأعمال الظّاهرة والباطنة [1].
إن مفهوم العبادة في الإسلام أعم وأشمل مما يعتقده كثير من الناس، من مجرد الصلاة والزكاة والصيام والحج فقط، ولكن العبادة التي خلقنا الله من أجلها هي تعظيم الله عز وجل والخضوع والتذلل له وإفراده بالطاعة المطلقة، فإذا جاء أمره سبحانه يجب أن يسقط من حسابنا كل أمر عدا أمره عز وجل.

وقد عرف شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله العبادة تعريفًا ينم عن استقراء لكافة النصوص في ذلك حيث قال: "العبادة اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة: فالصلاة والزكاة والصيام والحج وصدق الحديث وأداء الأمانة، وبر الوالدين وصلة الأرحام والوفاء بالعهود، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد للكفار والمنافقين، والإحسان إلى الجار واليتيم والمسكين والمملوك من الآدميين والبهائم، والدعاء والذكر والقراءة وأمثال ذلك من العبادة، وكذلك حب الله ورسوله وخشية الله والإنابة إليه وإخلاص الدين له والصبر لحكمه والشكر لنعمه والرضاء بقضائه، والتوكل عليه والرجاء لرحمته والخوف لعذابه وأمثال ذلك هي من العبادات لله" [2]، ولا يتحقق معنى العبودية التي خلقنا الله لأجلها إلا بركنين عظيمين وركيزتين أساسيتين، هما: (غاية المحبة مع غاية الذل والخضوع لله عز وجل).
قال ابن القيم في نونيته:

وعبادة الرحمن غاية حبه *** مع ذل عابده هما قطبان
وعليهما فلك العبادة دائر *** ما دار حتى قامت القطبان


قال شيخ الإسلام: "يقال (تيم الله) أي عبد الله، فالمتيم المعبد لمحبوبه ومن خضع لإنسان مع بغض له، فلا يكون عابدًا ولو أحب شيئًا ولم يخضع له لم يكن عابدًا له كما قد يحب ولده وصديقه، ولهذا لا يكفي أحدهما في عبادة الله بل يجب أن يكون الله أحب إلى العبد من كل شيء، وأن يكون الله عنده أعظم من كل شيء بل لا يستحق المحبة والذل التام إلا لله، فكل ما أحب لغير الله فمحبته فاسدة وما عظم بغير أمر الله كان تعظيمه باطلاً" [3].

وقال ابن القيم: "والمحبة مع الخضوع هي العبودية التي خلق الخلق لأجلها، فإنها غاية الحب بغاية الذل ولا يصلح ذلك إلا له سبحانه والإشراك به في هذا هو الشرك الذي لا يغفره الله ولا يقبل لصاحبه عملاً" [4]، فكل من قال: "لا إله إلا الله" معنى ذلك أنه لا يستحق العبادة إلا الله وكل ما سوى الله لا يحق له أن يُعبد فكل ما سواه حق له أن يعبده، هذه حقيقة يجب أن نستحضرها ونستذكرها وأن لا ننساها ولا تغيب عن بالنا طرفة عين.

والعبادة باعتبار نفعها قسمان:
الأول: أن يكون نفعها ذاتيًا كالصلاة وقراءة القرآن والأذكار وغيرها.
الثاني: أن يكون نفعها متعديًا كالزكاة لأن الغني يخرج جزء من ماله ويعطيه للفقير.
والعبادة المتعدية باعتبار نفعها وأثرها تكون أفضل وأكثر أجرًا من الذاتية، وكلنا نعلم فضائل الصيام وقيام الليل وفضل قراءة القرآن، لكن اسمعوا لفضل كافل الأرملة والمسكين، يقول عليه الصلاة والسلام: «الساعي على الأرملة والمسكين، كالمجاهد في سبيل الله -وأحسبه قال شك الراوي القعنبي- كالقائم لا يفتر وكالصائم لا يفطر» [5]، وفي الحديث الآخر عن النبي عليه الصلاة والسلام قال: «أنا وكافل اليتيم في الجنة كهاتين، وأشار بأصبعه السبابة والوسطى» [6].

والعبادة باعتبار التذلل الاختياري والاضطراري لله عز وجل قسمان أيضا:
عبادة كونية وعبادة شرعية، يقول الشيخ ابن عثيمين: "واعلم أن العبادة نوعان: عبادة كونية وهي الخضوع لأمر الله تعالى الكوني وهذه شاملة لجميع الخلق لا يخرج عنها أحد لقوله تعالى: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} [وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا} [سورة الفرقان من الآية:63]. فالنوع الأول لا يحمد عليه الإنسان لأنه بغير فعله لكن قد يحصل منه من شكر عند الرخاء وصبر على البلاء بخلاف النوع الثاني فإنه يحمد عليه" [7].

فحقيقة العبادة هي كمال الذل مع كمال المحبة لله عز وجل، ونهاية الخضوع والانقياد والاستسلام والتواضع والخوف والخشية والإنابة والرجاء والإذعان للعزيز المنان، كما أن: "حقيقة العبادة انقياد النفس الأمارة لأحكام الله تعالى وصورته وقالبه الإسلام ومعناه وروحه الإيمان ونوره الإحسان" [8].

ولما طغت الماديات في زماننا انقلبت الموازين واختلفت المفاهيم، حتى ساد بين كثير من المسلمين بأن العبادة هي الشعائر الدينية والفرائض الوقتية، حتى غرقت الأمة بالذل والهوان والضعف والتقهقر، ولا يمكن أن تعود لمجدها وعزتها وقوتها حتى يستقر المفهوم الصحيح " للعبادة " ويطبق بشكل دقيق، لأن العمل والتطبيق بعد العلم والفهم.

وعليه يجب أن يكون مفهوم العبادة شامل ومعناها واسع، ولا يقتصر على بعض الطاعات والأفعال والفرائض، فكل ما يحبه الله ويرضاه من الأعمال والأقوال الظاهرة والباطنة إذا صحت النية وأحبها الله وارتضاها فهي عبادة، فحركاتك وسكناتك وتعاملاتك إذا أحسنت النية فيها فهي عبادة، وكذلك أمرك بالمعروف ونهيك عن المنكر، بل تبسمك في وجه أخيك، وإماطة الأذى عن الطريق، والحياء عبادة، وصلة الأرحام وبر الوالدين، وحسن العشرة والأخوة في الله، والصدق في الحديث والتسامح مع الآخرين والصفح عنهم، وحسن الخلق وتجنب مواطن الشبهة والريبة، إلى غير ذلك من التعاملات والسلوكيات والعلاقات الاجتماعية.

يقول ربنا جل وعلا: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ . لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَٰلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام:162-163]، فلو عاش الإنسان ومات لله ومع الله وفي سبيل الله بكل أحواله ومراحله وجوانبه، فإنه سيحقق معنى العبودية لله وحده لا شريك له، وتنقص تلك المرتبة بقدر تعلق قلب الإنسان بغير الله عز وجل حتى ينعكس على مجريات حياته.

لذلك يقول عليه الصلاة والسلام: «تعس عبد الدينار وعبد الدرهم وعبد الخميصة..» [9]، وبالمقابل قال عليه الصلاة والسلام: «تبسمك في وجه أخيك لك صدقة، وأمرك بالمعررف و نهيك عن المنكر صدقة، وإرشادك الرجل في أرض الضلال لك صدقة، وإماطتك الحجر والشوك، والعظم عن الطريق لك صدقة، وإفراغك من دلوك في دلو أخيك لك صدقة» [10]. ‌

"وإذا كانت العبادة غاية الوجود الإنساني، كما هي غاية كل وجود، فإن مفهومها لا يقتصر على المعنى الخاص الذي يرد إلى الذهن، والذي يضيق نطاقها، حتى يجعلها محصورة بأنواع الشعائر الخاصة التي يؤديها المؤمن، إن حقيقة العبادة تبدو في معنيين، أولهما عام، والأخر خاص..

أما العبادة بالمعنى العام: فإنها تعني السير في الحياة ابتغاء رضوان الله، وفق شريعة الله، فكل عمل يقصد به وجه الله تعالى، والقيام بأداء حق الناس استجابة لطلب الله تعالى بإصلاح الأرض ومنع الفساد فيها، يعد عبادة، وهكذا تتحول أعمال الإنسان مهما حققت له من نفع دنيوي إلى عبادة إذا قصد بها رضاء الله، فالعبادة ما تكاد تستقر حقيقتها في قلب المسلم، حتى تعلن عن نفسها في صورة عمل ونشاط وحركة وبناء، عبادة تستغرق نشاط المسلم، بخواطر نفسه، وخلجات قلبه، وأشواق روحه، وميول فطرته، وحركات جسمه، ولفتات جوارحه، وسلوكه مع الناس..

وبهذا الاستغراق، وهذا الشمول يتحقق معنى الخلافة في الأرض في قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة من الآية:30]، لأن الخلافة في الأرض هي عمل هذا الكائن الإنساني، وهي تقتضي ألوانًا من النشاط الحيوي في عمارة الأرض والتعرف إلى قواها وطاقاتها وذخائرها ومكنوناتها، وتحقيق إرادة الله في استخدامها وتنميقها، وترقية الحياة فيها، كما تقتضي الخلافة القيام على شريعة الله في الأرض، لتحقيق المنهج الإلهي الذي يتناسق مع الناموس الكوني العام، ومن ثم يتجلى أن معنى العبادة التي هي غاية الوجود الإنساني، أو التي هي وظيفة الإنسان الأولى، أوسع وأشمل من مجرد الشعائر، وأن وظيفة الخلافة داخلة في مدلول العبادة قطعًا، وإن حقيقة العبادة تتمثل إذًا في أمرين رئيسيين:

الأول: هو استقرار معنى العبودية لله في النفس، أي استقرار الشعور على أن هناك عبدًا وربًا، عبدًا يَعبد، وربًا يُعبد، وأن ليس وراء ذلك شيء، وأن ليس هناك إلا هذا الوضع، وهذا الاعتبار، ليس في هذا الوجود إلا عابد ومعبود، وإلا رب واحد، والكل له عبيد..

الثاني: هو التوجه إلى الله بكل حركة في الضمير، وكل حركة في الجوارح، وكل حركة في الحياة، التوجه بها إلى الله خالصة، والتجرد من كل شعور آخر، ومن كل معنى غير معنى التعبد لله.. بهذا وذلك يتحقق معنى العبادة" [11].

بهذا المفهوم الشامل المتكامل ينبغي أن نفهم حقيقة العبادة، وأن كل شيء في الحياة مع إخلاص النية وابتغاء مرضاة الله يكون عبادة، فكل مسلم في اختصاصه يستطيع تحقيق ذلك، فالاقتصادي عندما يتحرى الحلال والحرام ويؤصل لذلك ويربط هذا الجانب بالشريعة يكون ذلك له عبادة، وهكذا التاجر الذي يتحرى مصارف الزكاة ومستحقيها بشكل دقيق ويتعامل مع الناس بصدق وبر، والإعلامي المنافح الذي ينصر قضايا المسلمين فله دور كبير في ذلك، والطبيب والمهندس والأستاذ والداعية والكاتب والأديب والشاعر.. إلخ، كما يقول معاذ بن جبل رضي الله عنه: "إني لأحتسب نومتي كما أحتسب قومتي" [12].

وكم نحن بحاجة لترسيخ هذه المفاهيم، وتحقيق العبادة على الوجه الصحيح؛ في زمن اضطرب فيه العلم، واختلفت المفاهيم وطغت الماديات، وكثر الهرج وساد الجهل، وضعفت الهمم وقلت الإرادة، وظهر الفساد في البر والبحر، وعمالظلم والفجور، وزلت أقدام وضلت أفهام، وكثر الاختلاف والتناحر، وعمت البلوى والتلون والتفاخر، إذ يقول حبيبنا عليه الصلاة والسلام «عبادة في الهرج والفتنة كهجرة إلي» [13]. ‌
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.

—–

المصدر:  موقع طريق الإسلام
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] الموسوعة الفقهية ج29/256.
[2] كتاب العبودية لشيخ الاسلام ص 1.
[3] العبودية ص5.
[4] الفوائد ص183.
[5] رواه مسلم.
[6] أخرجه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[7] شرح ثلاثة الأصول (ص 38-39).
[8] تفسير الآلوسي (1/66).
[9] صحيح الجامع برقم 2926.
[10] صحيح الجامع برقم 2908.
[11] بحث بعنوان "العبادة في الإسلام" مجلة الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، العدد41، (15/478-480).
[12] جامع العلوم والحكم ص 23.
[13] صحيح الجامع برقم 3974. 

شاركنا بتعليق


سبعة عشر − 3 =




بدون تعليقات حتى الآن.