اسْتِقَامَةُ الْقَلْب

الخميس _26 _نوفمبر _2015AH admin
اسْتِقَامَةُ الْقَلْب

اسْتِقَامَةُ الْقَلْب

 

الحمدُ لله رب العالمين ، وأشهدُ أن لا إله إلا اللهُ وحده لا شريك له ، وأشهدُ أن محمداً عبده ورسوله ؛ صلَّى اللهُ وسلَّم عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين . أما بعد :

استمعنا معاشر الكرام إلى هذه الآيات ؛ قول الله عز وجل : {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30) نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ (31) نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ } [فصلت:30-32] وفيها عظم شأن الاستقامة ، وسبق في مجلس مضى حديث عن شيء من مضامين هذه الآيات ، لكن هذه وقفة مع جانبٍ من الاستقامة والذي في هذه الآيات حثٌ عليه وبيان لعظم شأنه قد يغفل عنه كثير من الناس ألا وهو : استقامة القلب بعناية العبد بإصلاح قلبه وإقامته على طاعة الله سبحانه وتعالى ؛ فإنه لا يستقيم إيمان عبدٍ ما لم يستقم قلبه ، والقلب هو أساس الصلاح ومعدنه ومنبعه ، وفي الحديث يقول نبينا عليه الصلاة والسلام : ((أَلاَ وَإِنَّ فِي الجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّهُ ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الجَسَدُ كُلُّهُ؛ أَلاَ وَهِيَ القَلْبُ)) . ولهذا فإن أمر استقامة القلب أمرٌ عظيم ؛ فإن كثيرًا من الناس ربما يعنى باستقامة الظاهر ويغفل عن إقامة باطنه على الطاعة وحُسن الإقبال على الله سبحانه وتعالى والبعد بالقلب عن أدواء القلوب وأمراضه التي تبعده عن الاستقامة .

والقلوب -يا معاشر الكرام- تتسلل إليها أدواء وأسقام وأمراض تُضعف ما فيها من إيمان وتُنقص ما فيها من دين وطاعة لله سبحانه وتعالى ؛ ولهذا فإن من الاستقامة على طاعة الله سبحانه وتعالى أن يحرص المرء على مداواة القلوب والنفوس والمجاهدة على البعد بها عن الأمراض والأسقام التي تصيب القلوب فتُسقِمها وتمرضها ، وكما أن الأبدان تمرض فإن القلوب تمرض مرضا أشد من مرض البدن ، وقد أخبر نبينا عليه الصلاة والسلام عن أمراض عديدة تصيب الناس وتتسلل إليهم وتنفذ إلى نفوسهم وقلوبهم ، وأخبر عليه الصلاة والسلام أنها أصابت الأمم السابقة .

وقد جمع في حديث واحد صلوات الله وسلامه عليه جملة من الأمراض والأدواء محذرًا ومنذرا صلوات الله وسلامه وبركاته عليه ، فقد جاء في المستدرك للحاكم بإسنادٍ ثابت من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ((سَيُصِيبُ أُمَّتِي دَاءُ الْأُمَمِ)) فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ ، وَمَا دَاءُ الْأُمَمِ ؟ قَالَ: ((الْأَشَرُ ، وَالْبَطَرُ ، وَالتَّكَاثُرُ ، وَالتَّنَاجُشُ فِي الدُّنْيَا ، وَالتَّبَاغُضُ ، وَالتَّحَاسُدُ ؛ حَتَّى يَكُونَ الْبَغْيُ)) . فعدَّ عليه الصلاة والسلام ستة أمراض وأدواء تصيب الناس ثم إذا اشتدت بهم الأمراض والأسقام وقع البغي وهو الغلو تجاوز الحدود والانتهاك للأنفس والأعراض والأموال غير مبالٍ من يفعل ذلك بعقاب ولا حساب ولا وقوف بين يدي الله سبحانه وتعالى.

 

وهذا الحديث يعدُّ علَمًا من أعلام النبوة ؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام أخبر عن أمورٍ أصابت الأمم قبل أمة محمد عليه الصلاة والسلام وأخبر أنها ستصيب الأمة ، فوقع الأمر طبقًا لما أخبر ووفقا لما قال عليه الصلاة والسلام ، فهذا آية من آيات النبوة .

ثم إن هذا الخبر خرج مخرج التحذير والإنذار ، لم يقل ذلك عليه الصلاة والسلام مجرد معلومة أو فائدة يسمعها الناس ، بل قال ذلك محذرا ومنذرا قال ((سَيُصِيبُ أُمَّتِي)) ، وإذا كانت هذه الأدواء ستصيب الأمة فالواجب على كل فرد من أفراد الأمة أن يحتاط لنفسه من أن تصيبه ، الآن ألا تسمعون في واقع الناس عندما يتحدث عن بعض الأمراض الخطيرة وأنها بدأت تنتشر ألا ترون في أحوال الناس معها اهتمامًا وسؤالًا عن العلاج وطرق الوقاية والسلامة واتخاذ بعض الأسباب للسلامة منها !! وهكذا في مثل هذا المقام ينبغي أن يكون المسلم بل أشد ، إذا كانت هذه الأمراض ستصيب الأمة ولابد فإذًا ينبغي على العبد أن يحترز وأن يحتاط لنفسه وأن يأخذ بأسباب الوقاية حتى لا يهلك بهذه الأمراض والأسقام العظيمة .

وإذا تأمل المتأمل في هذه الأمراض المعيَّنة في هذا الحديث يجد أن من ورائها إكبابًا على الدنيا وافتتانًا بها ، فتصبح في نفوس الناس هي الشغل الشاغل ، حتى إن بعض الناس لتصبح حاله في هذا المقام وفي هذا الأمر ولا همَّ له إلا الدنيا ، بل هي مبلغ علمه وغاية مراده ، وفي الدعاء المأثور (( اللهم لَا تَجْعَلِ الدُّنْيَا أَكْبَرَ هَمِّنَا وَلَا مَبْلَغَ عِلْمِنَا)) ، فتتحول الحال لدى بعض الناس إلى أن تصبح الدنيا هي أكبر همه وهي مبلغ علمه ؛ وهناك تتولد هذه الأمراض فيتولد الأشر ويتولد البطر ؛ الأشر: كفران النعم . والبطر : المرح والفرح الزائد الذي ينشأ عنه المغالاة والإسراف والبذْخ حتى يؤول إلى كفران النعم { وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا }[القصص:58] كفران للنعم وتجاوز للحدود في التعامل معها ؛ إسراف وتبذير وربما صرف للأموال في مساخط الله في أمور تغضبه سبحانه .

والتكاثر قد ذكره الله سبحانه وتعالى في سورة التكاثر { أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (1) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ (2)} يعني حتى دخلتم القبور وفارقتم الدنيا ، وهكذا الإنسان عندما تصبح الدنيا الشغل الشاغل له يصبح لا همَّ له إلا التكاثر ثم تأتي المنية ويدخل القبر وهو لم يزل منشغلًا بهذا التكاثر ، ويصبح ما عنده من مال ورئاسة وأمور أبوابًا للمفاخرة على الناس { أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا}[الكهف:34] ، ثم يصبح النعمة التي آتاه الله إياها يدخلها وهو ظالم لنفسه بالطغيان والشر والبطر والتفاخر على الناس ونسيان فضل الله عليه ، ويصبح بدل أن يحمد الله المنعِم يتحدث عن نفسه " أنا حقيق بذلك ، أنا ورثته كابرا عن كابر ، هذا مالي ورثته عن آبائي" ونحو هذه الكلمات { يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا }[النحل:83] .

والتناجش في الدنيا ؛ يصبح الرجل لا يبالي يبيع على بيع أخيه ويظلم أخاه ويزيد عليه بدون رغبة في الشراء وإنما ظلمًا لأخيه أو معاونة لآخر في سبيل ظلمٍ لآخر أو نحو ذلك .

والتحاسد: تمني زوال النعم عن الآخرين ؛ ولهذا يسمى الحاسد عدو نعمة الله على عباده ، وكلما زات النعم في أيدي الناس زاد الحسد في قلبه .

والتباغض يصبح بعضهم يبغض بعضًا ويعادي بعضهم يبعضا وتمتلئ قلوبهم بالعداوات ، وهذا خلاف مقصد الشريعة في التأليف بين القلوب والتحاب بين النفوس والتواد والتعاون على طاعة الله .

وقوله ((حَتَّى يَكُونَ الْبَغْيُ)) هذا فيه أن البغي يتولد من مثل هذه الأمراض ونحوها ، والنبي عليه الصلاة والسلام ذكر ذلك نصحًا للأمة وتحذيرًا لها صلوات الله وسلامه عليه .

فأخبر في هذه الحديث عن هذه الأدواء ووجودها في الأمم السابقة وأنها ستصيب هذه الأمة أمة محمد عليه الصلاة والسلام ، ثم أخبر في حديث آخر وهو في صحيح مسلم ويعد آية أخرى من آيات النبوة عن الوقت الذي تنتهي فيه مثل هذه الأمراض التشاحن والتحاسد والتباغض يأتي على الناس زمان وتنتهي فيه وعيَّنه النبي عليه الصلاة والسلام وذكره في حديث يعد آية من آيات النبوة ، ففي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ((وَاللهِ لَيَنْزِلَنَّ ابْنُ مَرْيَمَ حَكَمًا عَادِلًا، فَلَيَكْسِرَنَّ الصَّلِيبَ، وَلَيَقْتُلَنَّ الْخِنْزِيرَ، وَلَيَضَعَنَّ الْجِزْيَةَ، وَلَتُتْرَكَنَّ الْقِلَاصُ فَلَا يُسْعَى عَلَيْهَا، وَلَتَذْهَبَنَّ -وهذا موضع الشاهد – الشَّحْنَاءُ وَالتَّبَاغُضُ وَالتَّحَاسُدُ، وَلَيَدْعُوَنَّ إِلَى الْمَالِ فَلَا يَقْبَلُهُ أَحَدٌ)) ؛ المال يصبح متوفر لدى الجميع ، فالتباغض الذي كان من أجل هذا المال والتحاسد والتناجش ونحو هذه الأسقام التي كانت لأجل المال تنتهي لأن المال أصبح متوفر وزائد حتى إنَّ من عنده مال يريد أن يقدِّم صدقة يقدم زكاة ما يجد أحدًا أصلا يقبل منه .

وهذا يوضح لنا أن الأموال فيها فتنة ؛ فتنة لمن آتاه الله المال ، وفتنة لمن لم يؤته الله المال ، حتى الذي لم يؤته الله المال أيضا فتنة ، إيتاء الله المال لغيره فتنة له ، وكم من الناس لا يوفق في هذا الامتحان سواءً من آتاه الله المال أو من لم يؤته ، لأن هذا ممتحن بماله وهذا ممتحن بعدم وجود المال له ، والدنيا دار ابتلاء وامتحان ، والموفق من عباد الله سبحانه وتعالى من يمضي في دنياه على الاستقامة على طاعة الله .

وعودا على بدء ؛ {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30) نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ (31) نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ } [فصلت:30-32]  جعلنا الله أجمعين بمنِّه وكرمه منهم ، وهدانا إليه صراطا مستقيما ، وأصلح لنا شأننا كله إنه تبارك وتعالى سميع الدعاء وهو أهل الرجاء وهو حسبنا ونعم الوكيل .

وصلى الله وسلَّم على عبده ورسوله نبينا محمد وآله وصحبه .

شاركنا بتعليق


ستة عشر + ثمانية عشر =




بدون تعليقات حتى الآن.