تقديم العقل على النقل
الخميس _21 _يونيو _2018AH adminتقديم العقل على النقل:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فمن أخطر الأخطاء العقدية المستشرية في ثقافتنا: تأليه العقل في مقابل توهين النص أو بعبارة أخرى تقديم العقل على النقل..
وقد اتخذت مظاهر هذا الداء العضال في عصرنا أشكالاً شتى، منها:-
- إطلاق العنان للعقل في فهم الكتاب والسنة من دون رجوع إلى فهم السلف لنصوصهما، مما أدى إلى تقريرات وفهوم غاية في الغرابة، واختيارات غاية في الشذوذ، يقول يوسف أبا الخيل مصححاً لرأي ابن المقفع: وبما أن النصوص في الشرع الإسلامي محدودة بطبيعتها باعتبار توقف الوحي بوفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، في مقابل تجدد النوازل وتغير الأحوال بتجدد الزمان وتطور الاجتماع، وهو أمر طبيعي إذ لو أن الشرع على رأي ابن المقفع لم يغادر حرفاً من الأحكام والأوامر والنواهي وجميع ما هو حادث في الناس منذ مبعث النبي صلى الله عليه وسلم إلى يوم يلقونه إلا جاء فيه بحكم معين لكان الناس قد كلفوا ما لا يطيقونه فضاق عليهم أمرهم وأتاهم ما لم تتسع له أفهامهم ولا قلوبهم ولحارت عقولهم وألبابهم التي امتن الله بها عليهم ولكانت تلك العقول لغواً لا يحتاجون إليها في شيء، ولذلك فمن لطف الله بعباده أن اقتصرت الشريعة على بيان الفروض والحدود، أما ما سوى ذلك فهو من ميدان العقل والتدبير الإنساني [جريدة الرياض/الخميس 24 رمضان 1426هـ العدد 13639]
- تقديم المصلحة المتوهمة على النص، يقول محمد المحمود: ما نحتاجه الآن: قطيعة نوعية مع تراث بشري تراكم على مدى أربعة عشر قرناً، يقابله اتصال خلاَّق بالنص الأول في مقاصده الكبرى، وليس مجرد ظاهرية نصوصية لا تعي ما بين يديها ولا ما خلفها.
- تشجيع الليبراليين الذين ينتهجون هذا المنهج، وفتح المجال لأقلامهم المسمومة في الصحافة، ولا أخال من له أدنى متابعة لصحفنا السيارة اليوم يشكك في صحة ذلك.
وغيرها الكثير..
وهذه النزعة ليست وليدة اليوم، بل بدأت تطل بقرنها منذ القرن الثالث الهجري، ولقد انبرى جهابذة العلماء منذ ذلك الحين إلى يومنا هذا يكشفون الملتبس، ويردون شبهتهم.
وهذه البدعة تصادم النصوص من عدة أوجه:
- أن الله جعل للعقل قدرة، لا يسعه أن يتجاوزها ويتعداها، فأمر الله عند الاختلاف بالرجوع إلى الكتاب والسنة لا إلى عقل أولئك فقال سبحانه: {فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا} [النساء:59].
والكتاب والسنة طافحان بالرد إليهما عند التنازع والاختلاف، ومن كان عنده أدنى نظر فيهما علم ذلك قطعاً.
- أن تقديم العقل على النقل قدح في العقل، يقول ابن أبي العز الحنفي : (وتقديم العقل ممتنع لان العقل قد دل على صحة السمع ووجوب قبول ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم فلو أبطلنا النقل لكنا قد أبطلنا دلالة العقل ولو أبطلنا دلالة العقل لم يصلح أن يكون معارضا للنقل لأن ما ليس بدليل لا يصلح لمعارضة شيء من الأشياء فكان تقديم العقل موجباً عدم تقديمه فلا يجوز تقديمه، وهذا بين واضح فإن العقل هو الذي دل على صدق السمع وصحته وأن خبره مطابق لمخبره فان جاز أن تكون الدلالة باطلة لبطلان النقل لزم أن لا يكون العقل دليلا صحيحا وإذا لم يكن دليلا صحيحا لم يجز أن يتبع بحال فضلا عن أن يقدم فصار تقديم العقل على النقل قدحا في العقل [ شرح العقيدة الطحاوية1/217].
- أن العقل مصدق للشرع فيما يخبر به ولاعكس، يقول شيخ الإسلام بن تيمية: (إذا تعارض الشرع والعقل وجب تقديم الشرع؛ لأن العقل مصدق للشرع في كل ما أخبر به والشرع لم يصدق العقل في كل ما أخبر به ولا العلم بصدقه موقوف على كل ما يخبر به العقل) [درء تعارض العقل والنقل 1/138]
- وهو وجه عظيم لطيف ، مضمونه: أننا لو سلمنا بتقديم العقل على الشرع لم يرتفع الاختلاف، ولم يحصل الاهتداء، بل أصبح الناس مضطربين في أمور معاشهم ناهيك عن اضطرابهم في عقائدهم ومفاهيمهم.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله-: ( تقديم المعقول على الأدلة الشرعية ممتنع متناقض وأما تقديم الأدلة الشرعية فهو ممكن مؤتلف فوجب الثاني دون الأول، وذلك لأن كون الشيء معلوما بالعقل أو غير معلوم بالعقل ليس هو صفة لازمه لشيء من الأشياء بل هو من الأمور النسبية الإضافية فإن زيدا قد يعلم بعقله ما لا يعلمه بكر بعقله وقد يعلم الإنسان في حال بعقله ما يجهله في وقت آخر، والمسائل التي يقال إنه قد تعارض فيها العقل والشرع جميعها مما اضطرب فيه العقلاء ولم يتفقوا فيها على أن موجب العقل كذا بل كل من العقلاء، يقول: إن العقل أثبت أو أوجب أو سوغ ما يقول الآخر إن العقل نفاه أو أحاله أو منع منه، بل قد آل الأمر بينهم إلى التنازع فيما يقولون إنه من العلوم الضرورية، فيقول هذا نحن نعلم بالضرورة العقلية ما يقول الآخر إنه غير معلوم بالضرورة العقلية، كما يقول أكثر العقلاء: نحن نعلم بالضرورة العقلية امتناع رؤية مرئى من غير معاينة ومقابلة، ويقول طائفة من العقلاء: إن ذلك ممكن، ويقول أكثر العقلاء: إنا نعلم أن حدوث حادث بلا سبب حادث ممتنع ويقول طائفة من العقلاء: إن ذلك ممكن، فلو قيل بتقديم العقل على الشرع -وليست العقول شيئا واحدا بيِّناً بنفسه ولا عليه دليل معلوم للناس بل فيها هذا الإختلاف والإضطراب- لوجب أن يحال الناس على شيء لا سبيل إلى ثبوته ومعرفته ولا اتفاق للناس عليه.
وأما الشرع فهو في نفسه قول الصادق وهذه صفة لازمة له لا تختلف باختلاف أحوال الناس والعلم بذلك ممكن ورد الناس إليه ممكن؛ ولهذا جاء التنزيل برد الناس عند التنازع إلى الكتاب والسنة، وهذا يوجب تقديم السمع، وهذا هو الواجب؛ إذ لو ردوا إلى غير ذلك من عقول الرجال وآرائهم ومقاييسهم وبراهينهم لم يزدهم هذا الرد إلا اختلافا واضطرابا وشكا وارتيابا، ولذلك قال تعالى: {كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه} [سورة البقرة: 213])أهـ بتصرف يسير [المرجع السابق:1/144]
هذا غيض من فيض في الشبهة وردها، وإلا فإن الكلام يطول في ذلك ويتشعب، لكثرة المفتونين بها وقلة الناصح العالم، وابتعاد بعض العلماء عن طريقة السلف في صيانة الشريعة والذب عنها، فشبهتهم اليوم ليست كشبهتهم غداً، وشبهة أسلافهم ليست كشبهة خلوفهم.
وقد ظهر كتاب نافع للشيخ الدكتور: ناصر الحنيني سماه: (التطرف المسكوت عنه)، ناقش فيه شبه القوم وقطع أصل هذه النبتة السوداء –كفى الله المسلمين شرها-، فجزاه الله عن الأمة خيراً.
وقد أعجبني مقال الدكتور جعفر شيخ إدريس في مجلة البيان عدد 248 بعنوان: (السلفيون هم العقلانيون) فليراجعان.
اللهم هيئ لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف وينهى فيه عن المنكر، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
شاركنا بتعليق
بدون تعليقات حتى الآن.